شريعتي والتشيع الصفوي
وسام السبع
هل كان المفكر الإيراني المعروف علي شريعتي (1933– 1977) يمثل المعادل الشيعي لمنظّر حركة الإخوان المسلمين المصرية سيد قطب (1906– 1966)؟ وهل ثمة وشائج فكرية تجمع بين الرجلين ؟
هذا التساؤل أطرحه لاعتبارات يستند معظمها لأوجه الشبه بين النموذجين العربي والإيراني (الشيعي– السني)؛ فالاثنان خاضا معارك فكرية وسياسية واحدة، وواجها أنظمة سياسية مستبدة، وخاضا في وقت متقارب زمنياً غمار العمل النضالي وحملا القلم وخبرا السجن، ودرسا في الغرب قبل أن يمارسا أدواراً فكرية ضخمة وشديدة التأثير ويبشران بمشاريع خلاص في مجتمعيهما. والاثنان تنكبا ذات الطريق وواجها المصير نفسه الذي انتهى بالتصفية الجسدية. وهما معاً تبنيا نموذجاً حركياً يلحُ بشكل عنيد على إشعال جذوة الغضب في صفوف الجماهير وتهيئتها للثورة والتمرد على الواقع البائس الذي كانت تعيشه الشعوب المستضعفة وقتئذ.
والاثنان أيضاً – وهنا مربط الفرس- غرسا نبتة «التمايز» و«الفرز» الحاد بين العناصر الصالحة في الأمة (المجتمع) والتي تقع على كاهلها مسؤولية التغيير وتحمّل الرسالة التي من أجلها بُعث الرسل وجاءت الرسالات السماوية؛ وبين العناصر «غير الصالحة» التي لا تقف فحسب حجر عثرة بين طموحات التغيير الإصلاحي عند طلاب الحرية والمناضلين من أجل الكرامة، بل تعمل على تكريس الواقع القائم وتسويغه وتطيل من أمد معاناة الشعوب.
من هنا توسع سيد قطب في تأصيل فكرته حول «جاهلية القرن العشرين» قاسماً المجتمع إلى فسطاطين: مسلمين بحق، وآخرين يعيشون جاهلية لا تختلف في الجوهر والمضمون عن جاهلية عرب البادية قبل بعثة النبي (ص) وبعدها بقليل، وإن نطقوا بالشهادتين والتزموا ببعض شعائر الدين!
أما شريعتي، فقد بادر بدوره إلى تقسيم أبناء مجتمعه من المسلمين الشيعة إلى شيعة علي بن أبي طالب وشيعة الشاه عباس الصفوي، أو كما أسماه «التشيع العلوي» و«التشيع الصفوي»، وهي المقولة التي –مهما حسنت نوايا مطلقها– تردّدت وراجت بشكل كبير جداً واستُخدمت فيما بعد بشكلٍ مغرضٍ وصفيقٍ، ووُظّفت للنيل من أتباع هذا المذهب الإسلامي العريق، من قبل مناوئيهم وخصومهم السياسيين، وجرى ترديدها بغباء وتقصد، معزولةً عن سياق إطلاقها والظروف التي استخدمت فيها.
والسؤال: هل كان شريعتي يمثل الظلال الفارسية لحركية سيد قطب العربية؟ الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى دراسة وتتبع واسع، وهو غير ميسور لمن هم مثلي، ولكني أميل إلى الإقرار بوجود علاقة تأثر، وعندما درس الباحث الايراني عباس خامه يار علاقة «إيران والإخوان المسلمين»، وقف على شيء غير قليل من الحقائق المهمة في هذا المجال ليس هنا محل استعراضها.
ما دفعني إلى طرح الموضوع هو كمّ المقالات والدراسات التي كتبت حول فكر شريعتي وحجم تأثيره على جيل الشباب الإيراني في فترة الستينيات والسبعينيات، وهي فترةٌ كانت فاصلةً في تاريخ إيران المعاصر، وهيأت الظروف لتحوّل كبير في مستقبل البلاد.
شريعتي كان بلاشك مفكراً ذا قدرات تحليلية ملفتة، وكان إلى جانب تخصّصه في علم الاجتماع وعلم الأديان المقارن، خطيباً مفوّهاً قادراً على إشعال الحماس في أوساط الشباب، لكن اندفاعه الثوري ولغته الغاضبة ونزعته التعبوية قد أوقعته في مزالق تاريخية أنتجت أحكاماً يجري الآن إعادة تقييمها بلحاظ ما أنتجته من آثار عكسية ارتدت سلباً على نظرة الآخرين لأتباع هذا المذهب الإسلامي؛ فقد وفّرت أدبيات شريعتي مادةً خاماً لإنتاج خطاب كراهية يستخدمه الموتورون وأصحاب القلوب المريضة للمناكفات المذهبية وهدر طاقات المجتمع في حروبهم المختلقة ومشاكساتهم الطائفية المبتذلة.
لقد استخدم شريعتي مصطلح التشيع الصفوي (المبتدع) في مقابل التشيع العلوي (الأصيل) لوصف واقعٍ راكدٍ كان يسعى لتغييره، ومن هنا جاءت محاولة تأصيل هذه الرؤية من خلال تقسيم التاريخ الإسلامي إلى مرحلتين، تبدأ الثانية منهما مع بداية عهد الدولة الصفوية.
الباحث علي المؤمن اعتبر في مقالة له قبل أسابيع أفكار شريعتي في كتابه «الرديء»- الوصف للمؤمن- «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» نموذجاً لليسار الديني في إيران في مرحلة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وهي أفكار تخلط بين الفقهاء ووعاظ السلاطين، وتساوي بين عالم الدين و»الروزخون»، وتحمِّل الفقيه الشيعي وزر الشيخ السلفي. واعتبر أن هذا الأطروحات «تساهم في تحفيز الآخر الطائفي ضد الشيعة، وفي توفير المسوغات الفكرية والدعائية لتكفيرهم وذبحهم من الخصم التكفيري».
أما أحمد راسم النفيس فيرى أن شريعتي «بالغ في توصيف الواقع الذي عاشته إيران قبل الثورة الإسلامية، فاختار هذا المصطلح الذي نعتقد أنه شكّل مبالغةً كبرى تحوّلت بعد ذلك لتصبح تهمة تلاحق كل الشيعة في ولائهم وانتمائهم لأوطانهم وتجعل من تشيعهم حالة صفوية خزعبلاتية، وهو وصف أبعد ما يكون عن الحقيقة».
ورغم ذلك، فإنه لا يمكن اختزال فكر شريعتي بهذه المقولة، فللرجل طروحات لازالت طرية ولاتزال تحتفظ بحرارتها وقدرتها على تحريك الأذهان وتغذية العقول.
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 5022 - الثلثاء 07 يونيو 2016م